عندما تزينت شندويل في ليلة صيف عام ١٨٩٦م
لأننا من عشاق التاريخ، أو لنقل بدقة أكثر: نحن التاريخ ذاته حين ينطق، دعونا نأخذكم في رحلة استثنائية عبر أروقة الزمن. رحلة تعود بنا ١٢٩ عامًا كاملة إلى الوراء، حيث شندويل البلد في أبهى صورها وأجمل أيامها.
سنلتقي معًا برجال كرام يفصلنا عنهم من أربعة الى خمسة أجيال تقريباً من الزمن، رجال عاشوا ورحلوا لكن ذكراهم لا تزال محفورة في سجلات التاريخ وفي قلوب أحفادهم.
دفتر عتيق يحكي حكايات
بين أيدينا اليوم صفحة من دفتر قيد النكاح لناحية شندويل، التابعة لمديرية جرجا. دفتر عتيق احتضن بين دفتيه عقود الزواج من سنة ١٨٩٣م إلى سنة ١٨٩٨م.
خمس سنوات من أفراح الناس، من زيجاتهم، من بداياتهم. خمس سنوات موثقة بخط اليد وبحبر أسود على ورق أصفر مع الزمن.
هذا الدفتر لم يكن لشندويل البلد وحدها، بل شمل كل نواحي المنطقة شمال سوهاج: من قلفاو في شمالها، مرورًا بـ جزيرة شندويل وشندويل البلد و بنو شاح و المراغة، وصولًا إلى أولاد إسماعيل في أقصى الشمال علي حدود بلاد طهطا.
اليوم سنفتح هذا الدفتر على صفحة خاصة جدًا، صفحة تحكي قصة ليلة لا تُنسى.
اليوم الخميس ١٩ يوليو ١٨٩٦م
إشراقت شمس يوم جديد على صعيد مصر الخديوية، في عهد الخديوي الأعظم عباس حلمي الثاني – حامي حمى الديار وولي النعم. البلاد آمنة، والناس منشغلون بزراعتهم وتجارتهم، بين أفراح وأتراح تعكس الحياة بهدوئها المعتاد.
حين بدأت الشمس تميل نحو الغروب، وبدأت الحرارة تلطف بعد يوم صيفي حار، بدت شندويل البلد في حالة غير عادية، وكأنها تتحضر لحدث استثنائي يشغل كل الناس.
حركة ونشاط في كل مكان. الشوارع أكثر ازدحامًا من المعتاد. الأطفال يركضون بثياب نظيفة جديدة. النساء ينتقلن بين البيوت حاملات الأطباق والصواني. الرجال يتوافدون من كل حارة وزقاق.
السبب؟
اليوم زفاف واحد من أبناء البلد الكبار، شاب من أكرم الشباب وأنبلهم. إنه سيد بن الشيخ علي صالحين، شيخ البلد، من كبار الأعيان، الوجيه الحسيب النسيب.
ليلة كهذه لا تأتي كثيرًا. البلد كلها تستعد.
ديوان عائلة الشفاعنة يعج بالحياة
أمام ديوان عائلة الشفاعنة، الساحة تكاد لا تتسع للحاضرين. سجاجيد فُرشت في الخارج. كراسي خشبية صُفّت في صفوف. الجميع يجدون لهم مكانًا.
رائحة اللحم المشوي تملأ الأجواء. الذبائح كثيرة اليوم. صوت الرجال يعلو بالحديث والضحك. العبيد السمر يحملون الصواني بفناجين القهوة تدور على الحضور. الشربات الأحمر يطوف و الشاي بالنعناع يُقدَّم في كؤوس زجاجية صغيرة.
في وسط كل هذا الزحام والحركة، تبرز مجموعة من الرجال يديرون الأمور بنظام وحزم. إنهم إخوة العريس.
الإخوة: عماد الفرح
أحمد - الأخ الأكبر - يقف عند مدخل الساحة يستقبل الوفود القادمة من القرى المجاورة. يصافح هذا، ويعانق ذاك، ويرحب بالجميع بابتسامة عريضة ووجه بشوش.
عبدالله في الجهة الأخرى يشرف على الطعام. يتأكد من أن كل ضيف أخذ نصيبه، ويأمر الشباب بتوزيع المزيد من اللحم والأرز.
الشيخ عبدالرحمن - العالم حافظ لكتاب الله - جالس في الديوان مع كبار السن والمشايخ، يتبادل معهم الأحاديث، يستمع باهتمام، ويشاركهم الأراء ويجيب عن الأسئلة الدينية.
أما عبدالحافظ وعبدالعال ومحمد فهم وأبناؤهم كالنحل، يتحركون في كل اتجاه، يتأكدون أن كل شيء يسير على ما يرام.
من بعيد، تسمع صوت الدفوف تُقرع، والأهازيج الشعبية تُردد، والأطفال يصفقون ويغنون.
شندويل اليوم في عرس كبير.
شيخ البلد في مجلسه
وفي قلب الديوان، في أعلى مكان وأشرفه، يجلس رجل تجاوز الستين من عمره، لكن هيبته تملأ المكان. إنه الشيخ علي صالحين أبو شافعين، شيخ البلد، والد العريس، الرجل الذي يُشار إليه بالبنان في كل أنحاء الناحية.
عمامته الضخمة من الشاش الأبيض الفاخر ملفوفة بإتقان على الطريقة العربية الرصينة، جبته السوداء من الجوخ الثقيل تتدلى بأكمامها الواسعة، من تحتها قفطان فاخر من قماش "السايا" المقلم بخيوط دقيقة، يشده حزام شال عريض من الكشمير حول الوسط. عصا الأبنوس السوداء المطعمة بالفضة موضوعة بجانبه، ومن جيبه تتدلى سلسلة فضية سميكة تنتهي بساعة جيب سويسرية تلمع في الضوء.
نظراته الحكيمة تتفحّص الحاضرين بحنانٍ وحزمٍ في آنٍ واحد، وكل ما فيه يوحي بالوقار والمهابة. على إصبعه يلمع خاتمه الفِضي ذو الفص العقيقي، ذلك الخاتم الممهور بنقشه الخاص والذي طالما أمهَر به أوراق الأراضي والحجج والمبايعات التي كانت تمر بين يديه.
حوله يجلس كبار مشايخ البلاد وأعيانها؛ رجال في مثل سنّه أو أكبر قليلًا، بعماماتهم الكبيرة وأرديتهم الفاخرة من الجوخ الكحلي والرمادي. كلّهم من أصحاب الكلمة المسموعة والرأي المحترم، يتحدثون معه في شؤون البلاد وأحوال الناس.
من بين هؤلاء ضيوف أكارم وجهاء بلاد جهينة، وأولاد إسماعيل، وجزيرة شندويل، والشيخ مكرم، وبني هلال، وكذلك وفد من ناحية بني وشاح المجاورة - حيث تزوجت إحدى شقيقات الشيخ علي في تلك الناحية الكريمة، فهم أصهار وأحباب، جاؤوا اليوم ليشاركوا الفرحة ويشهدوا زفاف ابن أختهم.
وعائلات أخرى مرموقة من نواحي المنطقة، كلهم حضروا ليشهدوا هذا اليوم المشهود.
الشيخ علي لا يتحدث كثيرًا، لكن حين يتكلم، الجميع يُنصت. كلماته قليلة لكنها مُحكمة. يبتسم للضيوف، يومئ برأسه للداخلين، يسأل عن أحوال الناس وعائلاتهم.
اليوم قلبه مليء بالفرح. ابنه سيد يتزوج، والبلد كلها تشاركه الفرحة. ما أجمل أن يرى الرجل ثمار عمره تنضج أمام عينيه!
ومن حين لآخر، يلتفت الشيخ نحو إخوته الجالسين في صدر المجلس، يتبادل معهم النظرات والابتسامات. إخوته شافعين وأحمد وعبدالله وكمال الدين، كلهم سعداء بهذا اليوم، كلهم يشاركونه الفرحة.
الشيخ علي صالحين شافعين، الأب الفخور، الرجل الذي بنى اسمه على الكرم والحكمة والعدل، يعيش اليوم واحدة من أجمل لحظات حياته.
الأعمام في الصدارة
وبقرب الشيخ علي، يجلس إخوته، أعمام العريس، الذين جاؤوا مبكرًا وهم أكثر الناس حماسًا وفرحًا.
- الحاج شافعين صالحين يقف في مقدمة الديوان، ثابتًا بعمامته الكبيرة وثوبه الرصاصي الذي يزيده وقارًا. وعن جانبيه يقف أبناؤه، كلٌّ منهم يؤدي دوره بين الحضور، حجازي شافعين يقف إلى جوار أبيه يستقبل الضيوف ويصافحهم عند المدخل، بينما يتنقّل عمر شافعين بين المقاعد يحيّي الرجال ويطمئن على أماكن جلوسهم، أمّا محمد شافعين فملازم للعريس، يهيّئ له ما يلزم ويتابع ترتيبات أهل الفرح، في حين ينضم بخيت شافعين إلى شباب العائلة، ينسّق معهم استقبال الوفود ويتابع حركة الداخلين إلى الديوان.
- بجانبهم الحاج أحمد صالحين محاطًا بأبنائه: قاسم وصالحين ومحمد. الثلاثة في كامل أناقتهم.
- الحاج عبدالله صالحين وحوله أبناؤه الأربعة: عيسى وحسن وحسين وعبداللطيف. كلهم شباب في مقتبل العمر، يساعدون في الخدمة ويشاركون أبناء عمهم الفرحة.
- الشيخ كمال الدين صالحين أيضًا حاضر بوقاره المعهود وقفطانه البني الفاخرة، وبجانبه أبناؤه: محمد وعبده والزهري، ثلاثتهم يبتسمون ويحيّون الناس.
الأعمام سعداء جدًا اليوم. ابن أخيهم يتزوج، والعائلة تفرح.
فروع آل شافعين المعبدي تتوالى من كل صوب
ومع مرور الوقت، تبدأ الوفود في الوصول من كل مكان.
آل شافعين المعبدي الأنصاري بكل فروعهم وبطونهم يتوافدون جماعات: آل أبودوح بهيبتهم وعماماتهم الفخمة، آل مصلح بجبابهم الداكنة، آل حجاج و آل خليل معًا في موكب واحد.
وفي الوقت نفسه يصل وفد آل عثمان صديق بن عبادة شافعين، وهؤلاء أهل وأصهار! فـالشيخ علي صالحين - إحدى شقيقاته الكريمتين متزوجة في بيت آل عثمان صديق، وكان في صحبتهم شاب يلفت الأنظار، قامته منتصبة، بزته العسكرية الأنيقة تلمع في ضوء المساء، طربوشه الأحمر يعلو رأسه بكل فخر، نظراته واثقة، وعلى وجهه تظهر بوضوح علامات الطموح والنبوغ المبكر.
إنه اليوزباشي محمد غالب عثمان، الضابط الشاب الصاعد، الذي تخرج من المدرسة العسكرية منذ ستة أعوام فقط، لكنه استطاع أن يصنع لنفسه اسمًا واحترامًا بين رجال الجيش وأهل البلد على حد سواء. الناس تنظر إليه بإعجاب وفخر، فهو من أبناء شندويل الذين شرّفوا البلد بنجاحهم وتفوقهم.
يدخل اليوزباشي محمد غالب مع آل عثمان صدق، يصافح الشيخ علي صالحين باحترام، ويجلس مع الرجال يشاركهم الحديث والفرحة.
من جهة أخرى، يصل آل الشيخ الجلفي بن محمد عبادة شافعين وأبنائه جلفي و جيلاني، ومعهم وفد آل الحاج المراغي عبادة، قطعوا المسافة ليشاركوا الفرحة، و آل الشيخ يوسف عبادة وآل منصور عبادة بن شافعين يدخلون أيضًا في توقيت قريب، رجال بأزيائهم العربية الفاخرة.
عائلات شندويل البلد تملأ المكان
وفجأة، كأن حركة المكان دبت فيها الحياة، بدأت عائلات شندويل البلد تظهر عند بوابة الديوان، دخولًا مهيبًا يخطف الأبصار ويزيد المشهد وقارًا وهيبة.
من بوابة الديوان يدخل موكب فخم تتقدمه هيبة ووقار، إنهم عائلة الوسية أحفاد حسن بك عبدالمنعم الشندويلي يتقدمهم عميد العائلة محمد بك بن حسن بك عبد المنعم الشندويلي، رجل مهيب في السبعينيات من عمره، يرتدي قفطانًا فاخر تحت عباءة سوداء فاخرة من الجوخ، عمامته الضخمة من الشاش الكشميري تدل على مكانته الرفيعة، فإلى وقت ليس ببعيد كان وكيل مديرية جرجا ثم قنا، يمشي بخطوات واثقة، والرجال من خلفه، محمود محمد حسن الشندويلي وضيف الله حسن الشندويلي و الأبناء والأخفاد في صفوف منظمة بعماماتهم وجبابهم. يُستقبل بحفاوة بالغة، ويجلس في مكان مُعد له في صدر المجلس بجوار الشيخ علي صالحين.
في نفس الوقت تقريبًا، تصل مجموعة كبيرة من مشايخ العرب آل مقدام، موكب ضخم من الرجال بعماماتهم البيضاء وملابسهم الأنيقة يملؤون جانبًا من الساحة.
وتتوالى العائلات العريقة: آل الجندي بعماماتهم المميزة يدخلون من الجهة الشرقية، بينما آل الفراغلة و آل الشيخ يصلون معاً من الجهة الغربية بوقارهم المعهود وحللهم الفاخرة.
أشراف شندويل آل شرف الدين يأتون في جماعة منظمة، وآل فندي يدخلون معاً في نفس اللحظة تقريبًا.
والعائلات تتوافد من كل حارة وزقاق: من القبلي والبحري، من الشرق والغرب. الكل حاضر. لا أحد يريد أن يفوته هذا اليوم المشهود.
الساحة امتلأت تمامًا. الديوان لم يعد يتسع. فُرشت سجاجيد إضافية في الشارع. الناس وقوف وجلوس في كل مكان.
ومع هذا الزحام المهيب، ظلّت وفود عائلات شندويل تتدفق إلى الديوان كالسيل الهادر، كلُّ موكب منها يحمل تاريخًا من المجد والوجاهة.
دخل آل عليو الكرام و آل أبو تركي يتقدمون الرجال بوقار، ثم لحق بهم آل أبو حمرة وآل أبو حمدة، أهل المروءة والنخوة، وتبعهم آل أبو زنيط وآل أغا، وجاء آل اقصاصي وآل بحبح وآل بخيت، ثم تبعهم آل تمام وآل الجبالي وآل حسان، وكل خطوة لهم تحمل عبق الأصالة.
وتوافد آل حفني وآل حماية وآل خضر وآل خواجه، ثم آل دموكي وآل ربيعي، حضورٌ يعكس المحبة والود.
وجاء آل رسونة وآل رفة وآل رفاعي وآل ريس، ومعهم آل زارع وآل الزدينات وآل سالم، رجال لا يُذكر اسمهم إلا وتذكر الشهامة.
ثم دخل آل القمص وآل سدراك وآل السلاطين وآل سلام وآل سليمان، يتبعهم آل السوهاجي وآل شاهين وآل شحتر، ووراءهم آل الشواخين وآل شهاب وآل الشيمي.
وتدفقت مواكب آل الصاوي وآل صعايدة وآل عامر وآل العالم وآل عبد الباري، ثم آل عضماية وآل عز العرب وآل عليو، وكلهم أهل كرم.
ولم يتأخر آل غنامي وآل الفخراني وآل فواز وآل الفولي وآل فياض، ومعهم آل قاضي وآل القصاصين وآل القوللي، ثم آل مامني وآل المالح وآل المحمدي.
وتتابع حضور آل معوض وآل مغازي وآل موسى وآل نايب وآل النجارية،... ليكتمل بذلك موكب شندويل في أجمل صوره؛ عائلاتٌ تتسابق بالمحبة والعزة والشرف، وتُعلن حضورها في ذلك اليوم المشهود كأروع ما تكون القرية المصرية الأصيلة.
شندويل اليوم كلها عائلة واحدة.
المأذون يصل
مع اقتراب المغرب، تدخل لحظة مختلفة على الجمع. الأحاديث الجانبية تخفت تدريجيًا. الحركة تهدأ قليلًا. الناس يلتفتون نحو الديوان.
رجل في الخمسينات من عمره يدخل بوقار. يرتدي قفطانًا أبيض نظيفًا تحت رداء داكن، عمامته البيضاء ملفوفة بعناية على رأسه. يحمل بيده دفترًا كبيرًا وقلمًا ومحبرة.
إنه الشيخ راجح متولي، مأذون ناحية شندويل.
يُفسح له الحاضرون المجال باحترامٍ وتقدير، فيمشي وسط الناس حتى يصل إلى المكان المُعد له في صدر المجلس.. يجلس، يضع الدفتر أمامه، يفتحه على صفحة جديدة بيضاء.
يبلل قلمه بالحبر، ويبدأ الكتابة بخط النسخ الجميل...
الجميع صامت الآن. الكل ينتظر.
العقد على وشك أن يُكتب.
نص الوثيقة
(نمرة ٤٧) قيد وثيقة عقد زواج
في يوم الخميس الموافق ١٩ يوليه سنة ٩٦ عن يد مأذون عقود الزواج بناحية شندويل التابعة لمديرية جرجا، والأسماء المذكورين أدنا..... تزويج الرجل العاقل البالغ الرشيد سيد علي صالحين من أهالي وسكان ومزاوعين ناحية شندويل، بالمرأة الثيب لبيبة بنت احمد خميس من أهالي وسكان ناحية شندويل أيضاً، علي صداق قدره أربعة آلاف قرش وسبعمائة قرشاً صاغاً، الحال المقبوض من ذلك العاجل ألفين قرش وسبعمائة وخمسون قرشاً صاغاً، ومؤخر من ذلك علي أحد الأجلين ألف قرش وتسعمائة وخمسون قرشاً صاغاً، زوجها علي ذلك وكيلها والدها أحمد خميس الثابته وكالته لها بشهادة علي خميس مكي وعطالله علي هابيل وقبل من الزوج زواجها لنفسه تزويجاً صحيحاً شرعياً صدر منهما بإيجاب وقبول شرعيين، وذلك بعد أن تحقق لدينا خلو الزوجين المذكورين أعلاه من الموانع الشرعية واليا... بإخبار شاهدي الوكالة المذكورين أعلاه.
هذا ما صدر وتمت به هذه الشهادة وحرر في تاريخه أعلاه.
الشهود الموقعون على العقد:
▪️ أحمد محمود أبودوح
▪️ سليمان علي مقدام
▪️ سيد أحمد عليو
▪️ قاسم أحمد صالحين
▪️ أحمد علي صالحين
▪️ عطالله علي هابيل
▪️الفقير إلى ربه راجح متولي - مأذون ناحية شندويل
الحرمة لبيبة بنت أحمد خميس المذكورة أعلاه كانت زوجة لـ سيد سليمان محمد الجندي، طلقها في ٤ شوال سنة.....١٣هـ بموجب قسيمة طلاق تحت يدها.
شهود الطلاق السابق:
- الشيخ أحمد مرعي أحمد
- عبد النبي قاسم علي مقدام
- أحمد محمود أبو دوح
- محمد أحمد علي مقدام
وبهذا تم العقد!
ارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير، وانطلقت الزغاريد من بيوت النساء القريبة. انفجرت الفرحة في كل مكان! الطبول تُقرع بحماس، والمزمار البلدي يعزف ألحان الفرح، والخيول العربية ترقص على الإيقاع، بينما اشتعلت حلقات التحطيب وسباقات الفرسان في كل جانب.
شندويل الليلة كلها عرس واحد كبير!
تعقيب تاريخي
أولًا: عن الصداق الاستثنائي
بعد مراجعة دقيقة وجرد عدد كبير من الوثائق في هذه الحقبة الزمنية (١٨٩٣م - ١٨٩٨م)، تبين أن عقود الزواج في تلك الفترة شملت مبالغ صداق مسمى تراوحت بين ٢٠٠ قرش كحد أدنى ولم تتخط حاجز ١٦٠٠ قرش كحد أقصى في الغالبية العظمى من الحالات. ونستنبط من هذا أنه هو القدر الطبيعي والمُتعارف عليه بين أهالي هذا الزمن من أدناه إلى أعلاه في الصداق.
لكن صداق لبيبة البالغ ٤٧٠٠ قرش صاغًا (أي ٤٧ جنيهًا تقريبًا) كان يعادل ثروة حقيقية، قد تكفي لبناء منزل كبير أو شراء أرض واسعة في هذا الزمن!، وكان الأكبر والأعلى على الإطلاق، ليس فقط في شندويل، بل على مستوى المنطقة الممتدة من بحري سوهاج إلى كامل بلاد المراغة وفق دفاتر النكاح.
هذا المبلغ الضخم - الذي يزيد بأكثر من الضعف عن أعلى صداق مُسجل في المنطقة - يُعد دليلًا قاطعًا على حب العريس العميق وتقديره الشديد لعروسه، وفي الوقت نفسه يعكس المكانة الاجتماعية الرفيعة التي يتمتع بها سيد علي صالحين بين أبناء عصره.
ثانيًا: شهادة الوثائق على نظرة المجتمع للثيب
ثالثاً: عن ذرية الحاج سيد علي صالحين
لم يُعقب الحاج سيد علي صالحين ذكورًا، ولكن الله تعالى رزقه من زوجته لبيبة ثلاث بنات كريمات، أثنتين تزوجن في بيوت كريمة بشندويل وواحدة تزرجت في نجع خميس.
وكان لهن - بفضل الله - شرف أن يكنّ سببًا في تشريف الشفاعنة بـخؤولة بيوت كريمة ع من أنبل بيوت شندويل وأطهرها. فالبنات - كما يقول أهل الصعيد - "خير وبركة".
رابعاً: عن أحد الشهود عقد النكاح
من الأمور اللطيفة التي تستحق الإشارة إليها، أن عطالله علي هابيل - أحد شهود وكالة العروس وأحد الموقعين على عقد الزواج - كان هو نفسه قد تزوج في نفس العام قبل هذا العقد بشهرين تقريبًا!
فقد وُجدنا له في نفس الدفتر قسيمة زواج مؤرخة بتاريخ ١١ مايو ١٨٩٦م، تزوج فيها من البنت البكر البالغة سيدة بنت حسنين عثمان فواز، بصداق قدره ١٩٥٠ قرشًا صاغًا.
وقد شهد على عقد زواجه كل من:
- سليمان علي مقدام (الذي كان أيضًا من شهود عقد سيد علي صالحين)
- عبدالجواد عبدالمتعال
- آدم مسعود أحمد
- محمد أحمد علي مقدام
ومن خلال هذا التفصيل تبرز دلالة مهمّة لا يمكن إغفالها؛ فارتفاع الصداق في زواج عطالله علي هابيل، وكذلك في غيره من زيجات تلك الفترة، يشير بوضوح إلى المكانة الاقتصادية والاجتماعية التي تمتّعت بها شندويل البلد آنذاك. فالمهور المرتفعة لم تكن مجرد أرقام، بل كانت تعبيرًا عن مستوى اليسر، ورمزًا لرفعة شأن العائلات، وما استقر في وجدانهم من عادات تقدّر المرأة وتعلو بشأن المصاهرة. وهكذا تكشف الوثيقة – دون أن تقول – عن مجتمعٍ راسخ الوجاهة، قوي البنيان، عاش أهله في رخاء ظاهر منذ القدم مروراً بأواخر القرن التاسع عشر وحتى الأن والى ماشاء.
خامساً: شندويل... أرض الأحرار ومهد العظماء
شندويل البلد سكنتها كبرى قبائل وعائلات الصعيد، فلم يُسجّل تاريخها مماليك استعبدوا أهلها، ولا حكّام اقتادوا أبناءها للسخرة، ولا احتلال دخلها فعاث فيها فسادًا.
بل كانت - وما زالت - أرض الأحرار، ومنبت الرجال، ومهد العظماء.
وكل اسم ورد في هذه الوثيقة الكريمة ليس مجرد حبر على ورق، بل جذر لشجرة باسقة وجدّ لعائلة كريمة لا تزال شندويل تعتز بها حتى يومنا هذا.
هذا هو جيل العز، الذي استلم الراية من الأجداد فأحسن حملها، ومهّد الطريق لمن بعده فأحسن التمهيد، وصاغ وثقّل جيل العظماء الذي رفع راية شندويل في كل ميدان.
فخلال أقل من عقدين من تلك الليلة المباركة، بلغ الشباب الصغير مبلغًا عظيمًا:
أضحى محمود بن محمد بك حسن "حضرة صاحب السعادة" - أول من نال لقب الباشوية في مديرية جرجا
وصار غالب عثمان صديق "حضرة صاحب العزة" غالب بك الشندويلي
وتوالى البكوات، وأعضاء مجلسي الأمة والشيوخ والشعب والشورى
وجاء من أصلاب هذا الجيل شاعر الصوفية عميد دار العلوم الشاعر الكبير علي الجندي
واللواء قاسم فوزي شافعين من الضباط الأحرار
وعلماء الأزهر الشريف، وحفظة كتاب الله، ومحققو الأحاديث النبوية، وأساتذة الجامعات.
خاتمة
رحمة الله على جميع من ذُكرت أسماؤهم في هذه الوثيقة المباركة، وجزاهم الله عن شندويل وأهلها خير الجزاء. فهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، عاشوا بكرامة ورحلوا بكرامة، وتركوا لنا إرثًا من القيم والأخلاق والعزة.
هذه ليست مجرد وثيقة زواج عمرها ١٢٩ عامًا، بل هي نافذة مضيئة نطل منها على زمن جميل، على عادات أصيلة، وعلى رجال ونساء كانوا نموذجًا في الكرم والنبل والأصالة.
حُفظت الوثيقة، وبقي الذكر، ودامت العزة لشندويل وأهلها.
تنويه حقوق النشر:
هذا المقال هو مادة أصلية نُشرت لأول مرة على مدونة عين على شندويل البلد بتاريخ: 25 / 11 / 2025 – في تمام الساعة: 9 صباحاً
يُحظر إعادة نشر هذا المحتوى أو اقتباسه كاملًا دون الإشارة إلى المصدر، حفاظًا على الحقوق الأدبية والعلمية للمدونة.






















