ترجمة موجزة عن علمٍ من أعلام القراءات المغمورين الذين ساهموا في خدمة إقراء القرآن الكريم والقراءات وعلوم القرآن بكلِّ إخلاصٍ وتَفانٍ وجَدارة:
هو العلامة المقرئ المتقن المحقق، والمتفنن المدقق، ناشرُ لواءَ الإفادة للطَّالبين، والاستفادةَ للسَّائلين، اللَّوذعي المِصقَع، وَالدرَّاكة الْمُرعرَع، الشيخ محمد سُليمان بن أحمد سُليمان الشَّندويلي[1] بلداً ومولداً، القاهري إقامةً ومدفناً، الأزهري تربيةً وتعلُّماً، المالكي فقهاً ومذهباً، شيخ مقارئ مسجد الحسين بالقاهرة لقرابة نصف قرن!.
حفظ القرآن المجيد، وأتقنه وجوَّده غاية التجويد، ثم اشتغل في طلب العلم بالجامع الأزهر، إلى أن حصل له الحظ الأوفر، فأخذ في الاشتغال بالتعلم والتحصيل، وقد أدرك الجهابذة الأفاضل ذوي القدر الجليل، وتلقَّى عليهم العلوم الشَّرعية والعربيَّة، ومنها القراءات العشر بطرقها المعروفة المرضية، فتلقَّاها على مشايخه في المعاهد الدينية العلمية الإسلامية الأزهرية بأسانيدهم وأجازوه بها، وقد أدَّى الامتحانَ النِّهائي بنجاح في ذلكَ علمياً وعمليِّاً أمام اللجنة برئاسة شيخ المقارىء المصرية في زمانه وأوانه العلامة المحقق الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني الشَّهير بالحدَّاد (1282 - 1357 هـ ) [2]، ونال بذلك شهادة علم القراءات والإجازة بها عام تسع وأربعين وثلاثمائة وألف هجرية، وصادقَ عليها شيخُ الْجامعِ الأزهَرِ في وقته العلامة الشيخ محمد الأحمدي الظَّواهري (1295 - 1363 هـ )[3] ثم تلقَّى القراءات العشر على شيخه العلامة المقرئ الشيخ محمد بن أحمد المغربي[4] شيخ الإقراء بالْجَامِعِ الأزهر،ومِنْ أبرزِ أَقرانِ المترجَمِ لَهُ في العلم: العلامة المقرىء الجَليل الشيخ محمد بن إسماعيل الهَمداني (ت: 1405هـ) شيخُ مَقرأةِ الْجَامعِ الأزهَر، والعلامة المقرئ الجليل الشيخ عامر بن السيد عثمان (ت:1408هـ) شيخ مقرأة مسجد الشافعي بالقاهرة، ثم شيخ عموم المقارئ المصرية.
وقد تَصدَّر الشيخ الشَّندويلي مُدَّةً طويلةً للإقراء وَالتَّدريس وإفادة الطَّلبة، خاصَّة في مَقرأة مسجد الحسين بالقاهرة، فاشتهر بعلم القراءات والتجويد، وأصبح يُشارُ إليه بالبنان في عَصره، ويُعتبرُ من بقية أفذاذه في مِصره، وكان فريداً في تسهيل المعاني وتبيين المباني في مَسائلِ القراءات ودقائِقَها، يفكُّ كلَّ مُشكلٍ بواضحِ تقريره، ويفتحُ كلَّ مُغلقٍ برائقِ تحريره، وكان واسعَ الحفظِ شديدَ الضَّبط للقراءات مُتواتِرها وشَاذِّها وحُجَجِها وطُرقِها وتحريراتها، ومُحيطاً بعلوم الرَّسم والضَّبط والفواصل، وقَدْ شَابهَ الإمامَ الْمُقرىءَ علمَ الدِّينِ علي بن محمد بن عبد الصَّمدِ السَّخاوي[5] (558 - 643 هـ) في طريقَتهِ للإقرَاءِ، بحيثُ يقراُ عَليهِ رَهْطٌ منَ القُرَّاءِ بمواضعَ مختلفةٍ من الْقُرآنِ الْعَظيمِ في دُفعةٍ وَاحِدةٍ بعدِّة روَاياتٍ وقرَاءاتٍ وهُو يَردُّ عَلى الْجَميعِ دُونَ لَبسٍ أَو خَلطٍ مِمَّا يَدلُّ عَلى سُرعَةِ بَديهيَّتهِ وكَمالِ فِطنتِه، وكانَ صاحِبَ دُعابةٍ ونُكتةٍ حاضرة، يمازحُ تلامذته رغمَ هَيبته، وامتاز بخطِّه الحسن الرَّائق فنسخَ الكثير من أمَّهات الكتب والمصاحف، وكان يكتب الإجازة لتلاميذه بخطه، ويسوقُ إسناده إلى النَّبي عَليه الصَّلاة والسَّلام، ومن سجاياه الحميدة أنه يأبى أخذَ الأُجرةِ على الإقراءِ بَلْ كان عَملُه احتساباً للأجرِ عند الله تعالى، حيثُ كان عفيفاً متقشِّفاً زاهداً، وصالحاً مُخبتاً عابداً، وللمترجَم المذكور فضائل شهيرة، وشمائل بديعة كثيرة، وقد قرأ عليه آلاف الطَّلبة والقُرَّاء بمختلف القراءات والروايات، وأنجب تلامذة فضلاء، لهم في العلم و فنِّ التجويد والقراءات اليد البيضاء، فمن داخل مصر:
♦ الدكتور الأحمدي أبو النور، وزير الأوقاف المصري الأسبق، محقق كتاب "شرح السنة للبغوي"، و كتاب "طبقات المالكية، المعروف باسم: الديباج المذهب في معرفةمذهب ابن فرحون "، وكتاب "درة الحجال في أسماء الرجال - ذيل وفيات الأعيان"، وكتاب "معالم الإيمان في طبقات علماء القيروان".
♦ القارئ الشهير إبراهيم الشعشاعي.
♦ الشيخ حسن بن عبدالسلام بن حسن أبو طالب.
♦ القارئ الشهير كمال البهتيمي.
♦ الشيخ كمال بن محمد أنيس القوصي.
♦ القارئ الشهير محمد محمود بحيري.
♦ القارئ الشهير محمود عبد الحكم.
♦ القارئ الشيخ عبدالغني حسن.
وغيرهم كثير..
وأما تلامذته من خارج مصر، فمنهم:
♦ الشيخ محمد بن شحادة الغول، من بلدة بخعون قضاء طرابلس لبنان، صاحب كتاب: "بغية عباد الرحمن لتحقيق تجويد القرآن".
♦ الشيخ محمد غياث بن محمد الجنباز، من حماة سوريا، محقق كتاب: "الغاية في القراءات العشر" لابن مهران الأصبهاني، وكتاب: "التصديق بالنظر إلى الله تعالى" للآجري، وكتاب: "القراءات الشاذة وتوجيهها في تفسير القاضي البيضاوي" وكتاب: "الشِّرعة في القراءات السَّبعة وشرحها لهبة الله البارزي الحموي، وغيرها".
♦ الشيخ محمد فيصل عداب بن محمود الحمش، من حماة سوريا، له كتب منها: "رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل"، و"ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه"، و"الإمام ابن حبان ومنهجه في الجرح والتعديل".
وعلى الرَّغم من انشغَالِ المترجَمِ لَهُ - رحمه الله - بتصَدِّيهِ للإقراءِ والتَّعليمِ مَا يزيدُ عَلى نصفِ قَرنٍ مِنَ الزَّمان، إلا أنَّ لَهُ مؤلفاتٌ بهيَّة، وآثارٌ لَطيفةٌ زَهيَّة، فمِنْ جُملتهَا: شَرحٌ على مَتنِ الشَّاطبيةِ في القراءاتِ السَّبع، ومنظومة ألفيَّة في النَّحوِ والصَّرف، وتحريرات في القراءات وطرقِها، وغيرها، لكن بَقيتْ آثارُه مخطوطة في خزانتهِ الخاصَّة.
ولم يزل الشيخ الشَّندويلي على حالةٍ حسنة، وصفةٍ مُستحسنة، إلى أن دعاه داعي المنيَّة، إلى الدَّار الآخرة العليَّة، عام ثلاث وأربعمائة وألف هجرية بالقاهرة، بعد حياة حافلة لخدمة كتاب الله العزيز.
رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات من تحتها الأنهار، وجزاه عمَّا قدَّم خير الجزاء وأوفاه، وجمعنا به في مُستقرِّ رحمته، وبدار كرامته.
العلامة المقرىء الكبير الشيخ محمد سليمان الشندويلي مع تلميذه الشيخ محمد غياث الجنباز، وذلك في أوائل السبعينات الميلادية، بمنزل صاحب الترجمة في حي الدراسة بالقاهرة |
وثيقة: "شهادة علم القراءات والإجازة بها" التي حصلَ عليها العلامة المقرىء الشيخ محمد سُليمان الشَّندويلي من المعاهد الدينية بالجامع الأزهر، ويظهر أنه أدَّى الامتحان النهائي بنجاح أمام اللجنة برئاسة شيخ المقارىء المصرية في زمانه وأوانه العلامة المحقق الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني الشَّهير بالحدَّاد، وعليها تصديق شيخ الجامع الأزهر في وقته العلامة الشيخ محمد الأحمدي الظَّواهري عام تسع وأربعين وثلاثمائة وألف هجرية.
أنموذج من إجازة العلامة المقرئ الشيخ محمد سليمان الشندويلي لتلميذه الشيخ محمد بن شحادة الغول برواية حفص عن عاصم، بخطه الحسن، وذلك عام 1388هـ.
مصادر الترجمة: مشافهة من تلاميذه
[1] قرية "شندويل" هي إحدى القرى التابعة لمركز المراغة بمحافظة سوهاج بصعيد مصر.
[2] الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرية لزكي مجاهد: (2 / 172 ).
[3] الأعلام الشرقية: (2/ 147).
[4] وهو من أبرز تلامذة شيخ الإقراء بالديار المصرية الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني الشهير بالحدَّاد.
[5] ترجمته في: وفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 345)، معرفة القراء الكبار للذهبي (1/ 597)، طبقات الشافعية للسُّبكي ( 8 /297 )، وغاية النِّهاية لابن الجزري ( 1/ 568)، بغية الوعاة للسيوطي ( 2/ 192).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق